-حاضر يا ماما
-نعم
-ملكوش خروج قبل ما تكملوا الاطباق شوفوا فلان ولا فلانة خلصوا الطبق قوام وعشان كدة نازلين وأنتو بقى ملكوش نزول النهاردة معاهم
-تيجوا ننزل نفرقع بمب؟
- خلاص خليكو أنتو هنا واحنا هننزل نفرقع البمب
كنتُ صغيرة وأستغرقُ في اللعب بالدمى في تمثيلياتٍ يؤلفها خيالي وتلعب بطولتها معي ابنة خالتي التي أكبرها بأربعة أشهر. كان أغلبُ لعبنا التمثيلي بدمى غالبًا ما كانت أبناءً لها هي دوني، حيثُ كنتُ أحبُ العملَ وأراني أختًا لها أو صديقة تتعاونُ معها في تكاليف المعيشة وترعى ابنتها اليتيمة أو ترعاها وترعى ابنتها بعد أن غدر بهما زوجها الخائن وطلقها ورماها برضيعتها. لم أكن أتخيل أنني سأحيا حياةً طبيعيةً تخلو من المشكلات الاجتماعية التي كانت تغذيها في عقلي الباطن مشاهدتي للمسلسلات التليفزيونية والأفلام العربية القديمة. ضمن الأفلام التي كنتُ ألعب بطولتها مع ابنة خالتي فيلم"عصافير الجنة" فكنتُ أرى عالمًا مختلفًا تمامًا حيثُ تهربُ طفلتان صغيرتان إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون فيعرضا مواهبهما على مخرج كبير يتبناهما فتمثلان وترقصان وتغنيان لتجنيا أموالًا هائلة تبتاعان بها دمى كثيرة جميلة وفساتين بيضاء ووردية تزهوان بهما بين الصحاب، وحين يراهما أبواهما في التليفزيون ويحاولان إعادتهما إلى المنزل ترفضان إلا أن يمتنعوا عن تعنيفهما وضربهما.
ذات ليلةٍ كانت تنام في سرير ابنة خالتها، التي بكت لأمها وأصرت أن تصحبها معها إلى المنزل حيث تلعبان معًا فتسلي عليها وحدتها، لتستيقظ على صراخ الخالة وهي تنزع عن الوسادة الصغيرة كيسها، وتصيح في ابنتها: مَن حرضك على كدة؟ والابنة لا ترد، فتسارع الخالة في استدعاء ابنة أختها وتسألها باتهامٍ صريح: أنتِ اللي قلتِ لها تكتب كدة ع المخدة؟؟ نظرت إلى الوسادة التي تحملها خالتها لتقول: لا واللهِ. فتسارعُ الخالة وتقول لها: ما تكدبيش، أنتِ اللي قلتِ لها، بنتي عمرها ما تكتب كدة من نفسها أبدًا.
تعودُ ابنة الخالة إلى الغرفة وتغلقها وتربت على كتف ابنة خالتها، وتقول لها: ليه كتبتِ ع المخدة؟ فتقول: دا جواب عشان لما نهرب ونروح التليفزيون.
تتخابط اللحظات فتمر السنوات، وتعود الفتاة إلى أحلامها وخيالها حيثُ ترى كل من في فصلها بالصف الثالث الإعدادي زوجات وأمهات، بينما هي... فـ لا.
يأتيها أولُ حلمٍ بالارتباط في الجامعة حين يتابعها أحدهم، فتتخيل كيف ستتصرف والدتها ووالدها بما يزعجها، وتقرر أن لا خيال.
الأوهامُ جزءٌ منها تأخذها حتى إلى لحظة التخرج حين تلمحهُ فيأتي كعادته يسلم عليها ويقول لها: مبروك!! تلمحها في عينيه ثانيةً لغة الحب المستحيل، فتهرب إلى أحضان أبيها وأمها. لكن شيئًا بالماضي سلبها أن تلعبَ نفس الدور الذي لعبته ابنة خالتها التي تزوجت بعد تخرجها لتتركها تعاني آلام الوحدة وتلعب نفس أدوار الماضي: سيدة كبيرة لم تتزوج ولم تنجب ولكنها تحملُ من الأمومةِ ما قد تفيض به على ابنة الخالة بأبنائها.
تطوي صفحات الماضي، لتستيقظ على أسوأ كابوسٍ تتمنى أن تفقدَ على إثره حياتها البشعة المليئة بالخيالات المتقمصة...
كنتُ توًّا قد شرعتُ في الكتابةِ عن أجمل فترات طفولتي، فقاطعني رنينُ الهاتف. وددتُ لو أقول لها أنني أكتبُ عنها وعن أخواتها وعن الأيام الجميلة التي أمضيتها في بيت عمتي عائشة. عمتي عائشة!! ماذا؟!! لقد أخبرتني بعد أن حاولتُ أن أتجاهل نبرة الحزن في صوتها لأسألها عنها، أنها ... ماتت.
لا أدري الآن هل أتحدثُ عنها كما كنتُ سأفعل قبل المكالمة أم أُعزي نفسي لوفاةِ شخصٍ آخر واختفائه من حياتي التي ربَّتَ فيها بوجوده على كتفي ليُعيد إليَّ الأمل أن الطيبة والبركة والزمن الجميل مازالوا يعيشون بيننا. تمالكتُ نفسي بعد أن حل بي الخبرُ كالكارثة، وحاولتُ أن أنشغلَ في أمرٍ منزلي لألهي نفسي فيه. وأخذتُ أتذكر أيام كنتُ طفلة في السنوات الأولى لعمري وكانت خالاتي لم يتزوجن بعد، وكن يفرحن حينما يأخذنني معهن إلى العمل، فقد كنتُ الحفيدة الأولى ومتعة التسلية بين أفراد بيت العائلة الكبيرة بمنزلنا. وعندما كبرت قليلًا وتزوجت خالتي أخذتني معها لأمضي وقتًا قبل أن يأتيا توأمها إلى الحياة لألعب بهما كالدمى الصغيرة التي كانت عمتي تهاديني بها عندما تعود من الإمارات محملة بالهدايا والفساتين الجميلة والدمى.
عمتي فادية هي الأخرى كانت تأخذني لديها لأمضي معها أيامًا وكنا نذهب عند أقارب زوجها. وفي زيارةٍ لعمتي عائشة أصرت أن أقضي مع ابنتيها أيامًا بالبيت، وكانت المتعة...
كانت عمتي عائشة ابنة عمة أبي التي كانت تسكنُ بجوارنا في منزلٍ بالدرب الأحمر بجوار السوق، وكنتُ أذهب عندها كلما أرسلتني جدتي لأشتري شيئًا بسيطًا من السوق، وأرسل إليها تحيات جدتي فلا تتوقف عن تقبيلي وتحدث كل الجيران لديها بالشقة كم أُشبه جدتي أم أبي "فوزية". أنفلتُ منها ومن جاراتها اللاتي كانوا يكادون يلتهموني من التقبيل لأعود للمنزل وأحمل للجدة تحيات وسلامات عمة أبي "تيتة كريمة".
عمتي عائشة تسكنُ بحي المعادي حيثُ يسكن بقية إخوتها من الذكور. وفي آخر أيام "تيتة كريمة" كانت عمتي عائشة قد أصرت على اصطحابها إلى منزلها الكبير هناك لتترك الدرب الأحمر وتقضي باقي سنوات العمر تحت رعاية ابنتها. كنتُ ألعب مع شيماء وأسماء فإحداهما تكبرني بعام والأخرى تصغرني بآخر. كان جُلُّ متعتنا عندما ترسلنا عمتي عائشة إلى السوق لنشتري الدقيق لتصنع لنا مع أمها "الرقاق" الذي نأخذه ساخنًا ونتقاسمه فيما بيننا. كان السوق بعيدًا عنهم بمسافةٍ طويلة، ونظرًا لأن شيماء وأسماء هما البنتان الصغيرتان اللتان يكبرهما أخوان اثنان من الذكور، فقد توارثا دراجة صغيرة كانت أول دراجة أتعلمُ عليها كيفية ركوب الدراجة دون مساند. كانت شيماء تركب الدراجة وكنا نحن نعدو وراءها، ومرة تركبُ أسماء وأعدو أنا وشيماء معًا، ثم قررا أن يعلماني كيف أركبها ليتبعاني. كم غمرتني الفرحة عندما كنتُ أشعرُ أنني أطيرُ بها وهما يتبعاني في الخلف!!
أما شيماءُ فتشتركُ معي في هواية الرسم، كانت تجلسُ معي بالشرفة لتعلمني كيف أرسمُ وجهًا لفتاة وكيف أصنع لها ضفائر أو فيونكات، وكيف أصمم لها زيًّا مناسبًا. وتمرُ الأيامُ فتلتحق شيماء بكلية التربية الفنية بالزمالك.
يااااااه كم مرت تلك السنوات سريعًا!! ويالها من حسرةٍ عندما أفقد أحبائي وأحباء أحبائي إلى قلبي!!! رحم الله الأيام الجميلة، ورحم الله مَن فقدتُ.
أشكرُ في بدء حديثي أصدقائي الذين دعتهم ذكرياتُ الطفولة الجميلة أن يقابلوها وسيقابلوني بها إن شاء الله.
تصعدُ في خفة الدرج لتلقي عليها تحية الصباح اليومية، فتأتيها بكوبين من اللبن الحليب الصافي وتضع السكر لتذيبه، ثم تشير إليها لتدير المذياع لتسمع وصلة الصباح المعتادة. إنها العاشرة تمامًا كما تعلمتها في سنوات عمرها الأولى بالمدرسة، ترتسم على وجهها علاماتُ الفرحة لأنها ستسمعها اليوم أيضًا. "حبايبي الحلوين..." وتبدأ في سرد الحدوتة اليومية، ثم تتبعها بأغنية. اليوم سنسمع حدوتها عن الأمانة، وبعدها تغني الطفلة الجميلة التي تعجبها كثيرًا وتتقمصُ دورها حين تردد معها:"نانا القطة نانا جت لعبت معانا لفت لفت قالت إيه بحب الأمانة بحب الأمانة...." ، "...حلوين اللي هييجي بكرة هيسمع الغنوة ويتسلى بالحدوتة، واقولكو إييييه توتة توتة فرغت الحدوتة".
وتنتهي الطفلة الصغيرة من تناول كوب اللبن كله بعد أن غمست فيه أصابع "البقسماط" والتهمته بعد أن وضعتهُ لها "تيتة" في الكوب. ثم تستمع مع تيتة إلى "عيلة مرزوق"، و"صفية المهندس"، و"إلى ربات البيوت". لم تكن برامج المذياع لديها في أهمية برنامجها المفضل اليومي الذي من أجله تترك الفراش صباحًا لتصعد الدرج وتمارس الطقوس اليومية التي تعودتها من الجدة، فالمذياعُ أصبح في أغلب البيوت "دقة قديمة" لذلك لا تجدُ له مكانًا سوى على مائدة الجدة صباحًا أثناء تناول كوب اللبن الحليب وبعض الفطيرات أو البقسماط.
أثناء البرنامج تتخيلُ الطفلةُ السيدة الجالسة من وراء المذياع: سيدة طيبة وهو واضحٌ للغاية من نبرة صوتها، كبيرة السن، وهو ما تستخلصه من طريقة حكيها. باختصارٍ هي في عينيها سيدة لا تقلُ في الشبه عن "ماما عفاف" والتي تأنسُ برنامجها التليفزيوني الأسبوعي في كل جمعة أثناء تناول الفطور العائلي مع بابا وماما.
استمعت الطفلة لجميع حواديت السيدة الطيبة. كانت تستغربُ اسمها: لماذا هي "أبلة" فضيلة بينما الأخريات يُلقبنَ بـ "ماما" فهناك مثلًا ماما نجوى، وماما سامية وماما عفاف وغيرهن، فلماذا إذًا تسمى بـ"أبلة"؟
كان اسمها أيضًا غريبًا على مسامع الطفلة التي اعتادت الأسماء البسيطة ذات المخارج الضعيفة، على عكس اسمها الذي تضطر فيه لنطق حرف الضاد القوي واللام كذلك. ولماذا لا تظهرُ على شاشة التليفزيون لنراها كما نرى ماما عفاف التي نراها في كل جمعة صباحًا؟ واضطرت الطفلة أن تتمسك بصورةِ ماما عفاف نظرًا لتقارب نبرة الحكي الجميلة بينهما. وتظلُ الطفلة تتخيل أبلة فضيلة في هذه الصورة، حتى أتت المذيعة عندما أصبحت الطفلة أكبر كثيرًا في التليفزيون لتقدمها إلى جمهورها من الأطفال. وعندها أفصحت عن سر لقب"أبلة" التي فضلته على "ماما"، وتنبهرُ الطفلةُ كثيرًا بها، وتتمنى أن تكون ضمن الأطفال الذين يغنون مع أبلة فضيلة أو يتناقشون معها استثناءً يوم الجمعة حينما تديرُ اليومَ بصورةٍ مختلفة لتكسر عادة البرنامج اليومية وليكون هناك نوعٌ من النقاش وتبادل الحوار بين الأجيال.
تعلمنا الصدق، والحق، والأمانة، وأشياء كثيرة. وكنا ننتوي أن نستمع إليها بين أبنائنا بل وأحفادنا على موائد إفطارنا معهم، ولكن شاءت القرارات أن تحرمنا هذا الصوت الجميل وهذه القيمة الفضيلة، ليتوقف برنامجها في المذياع بعد سنواتٍ طويلة من تربيةِ أجيال الصدق والأمانة و.....الفضيلة.
اليوم أحدثكم عن شيء نعانيه كثيرًا وهو التقليل من شأن الحرف التقليدية اليدوية ومَن يمتهنها. وقد جالت بخاطري مواقف متعددة منها موقف لشخص أراد الارتباط بي رغم فارق التعليم القوي بيني وبينه وكذلك فارق التفكير والتناقضات الغريبة بين شخصي وشخصه، وكانت نقطة الالتقاء التي أراد التقرب إليَّ منها هو أنني أقومُ بتسويق منتجات يدوية أصنعها بنفسي. هو لا يرى سوى أنني رغم الفارق التعليمي والفكري الكبير بيني وبينه لستُ في نظره سوى بائعة لمشغولاتي اليدوية. بل ومن فرط طيبته أرسل إليَّ شخصًا يطلبُ مني أن أتنازل عن عملي كمترجمة ومدرسة وأعمالي الأخرى لأتفرغ لأعمالي اليدوية حتى لا أترفع عن القبول به كزوج.
والحقيقة أنني لم أقبله كصديق للاختلافات البشعة بيني وبينه فكيف بي أقبله كزوج؟ لكن ما أهمني هو محاولته التقليل من شأني مستغلًا فرصة ضعيفة للغاية. لا أنكر أنني أسوق منتجاتي اليدوية وأحب أن أشغل وقت فراغي بها، ولا أنكرُ أن العمل ليس عيبًا، لكن هل أصبحت المهن البسيطة والحرف اليدوية ذريعة للتقليل من شأن الآخرين؟
لقد عمل الرسولُ صلى الله عليه وسلم كراعٍ للغنم، وبعدها عمل كتاجر، وكان داوود عليه السلام حدادًا، وكان نوح نجارًا، ولم يكن أيُّ نبي يعملُ مهندسًا أو رجلَ أعمال أو مديرًا لإحدى الشركات الكبرى. الحرف البسيطة ليست عيبًا وإنما العيب في اعتبارها عيبًا.
الأمر الذي عانيت منه أيضًا كان في إقناع والدتي بمشاركتي في المعارض لتسويق هذه المنتجات، وأنه لا يعيبني تسويقها، وأن الكثيرات من زوجات رجال الأعمال وصاحبات المكانة المرموقة في المجتمع يقمن بتسويق منتجاتهن أيضًا، لكنها رأته عيبًا وأصرت على اعتباره كذلك.
ما رأيته وعانيته فقط كان في مجتمعنا الغريب، ولكنني بمخالطة الجنسيات الأخرى وجدتهم يُعلون من شأن الحرف ويعدونها أشياءَ ذات قيمة عالية لا بد للمجتمع أن يرتقي بها حفاظًا عليها كجزء أساسي في منظومة الإنتاج. ومن هنا أتى الحرص لديهم على تأمين العامل وسلامته وكذلك حرصوا على استغلال قدراته وتوظيفها بما يليق. الغريبُ أنني قابلتُ نماذج لعمالٍ وحرفيين تسعى شركاتهم ومصانعهم إلى ترفيههم وتثقيفهم وكانت زيارتهم لمصر إحدى هذه الوسائل.
ونظرة ألقيتها على مجتمعنا الذي يُخرج إلينا شبابًا حتى لا يتقنون القراءة والكتابة وأقصى أمنياتهم الجلوس على المكاتب كموظفين حكوميين لتحصيل الرواتب البسيطة آخر كل شهر.
وأتعجبُ من هؤلاء الذين ينظرون إلى الشاب الذي يوظف إمكاناته لإنتاج سلعة وتسويقها وفقًا لما درسه من نظريات أثناء دراسته أنه شابٌ ذو مكانة متواضعة، وبمضاهاته بموظف حكومي لا يتقاضى سوى القليل ولا ينتج للدولة سوى المزيد من الكسل الوظيفي العام، فإن الموظف ذا المكانة والدرجة يحتلُ مرتبةً عليا في نفس أي أب يريد الزواج من ابنته.
غدًا أكملُ الحديث
ربما لم يكن يخطر ببالي أن أكتب عن هذا من قبل، لكنني قررتُ اليوم أن أكتبه في اعترافٍ مني لنفسي وللآخرين أنني أخطأتُ في حق الكثيرين ولكن عن سوء فهم وتقدير مني. فكنتُ أخوضُ مع الخائضين وأتكلم مع النمامين وربما مازلتُ لكنني اليوم أكثر حرصًا عن ذي قبل في تلجيم لساني حتى لو رأيت الكثيرين لا يلجمونه لكنني وجدتُ علامات وإشارات من الله بالابتلاء كانت وبفضل الله لي رادعًا وستظل وأنا سعيدةٌ بها.
الفكرة ببساطة أنك حينما تستمع إلى حديثٍ من فتاة أو أخرى وتألفه أذناك تستغرق معها وتأكلُ من ذات الفاكهة، حتى ولو كان على حساب الآخرين، دون أن تراعي أن الله بعث إليك بملكين يسجلان عليك أخطاءك. وقد كنتُ ومازلتُ في تلك الغفلة وغيري كثيرون، إلا أني ابتُليتُ ببعض الأشياء التي جعلتني أفتشُ في الماضي لأدرك كيف استهنتُ ببحثي عن عيوب الناس الخلقية كما فعلت صديقاتي من قبل وتجرأت لفعله.
والحق أن الله عاقبني بمثل ما أعبتُ على غيري فيهِ؛ فوجدتني أتجرع من نفس الكأس. لكنني أحمد الله على نعمة رد حق هؤلاء المظلومين في، فقد تمكنتُ من الاطلاع على عيوبي ومحاولة الانشغال بها، بل وقابلتُ بالصدفة بعض هؤلاء الناس لأطلب إليهم أن يسامحوني. كنتُ أنوي ذكر أمثلةٍ، لكني أؤثرُ الصمتَ عنها كي لا أفضحهم مرةً أخرى بجهلٍ مني. وندائي إلى الجميع ليس فقط في هذا الشهر بل وفي أشهر العام كله أن يتحروا ما ترمي به ألسنتهم الآخرين.
رحمها الله كانت بكلماتها البسيطة تبثني معاني جليلة. السفيه داريه وهات كحك بسكر وهاديه. واعمل لك في كل بلد صاحب ولا تعملكش في كل بلد عدو. إن كان جارك في خير افرح له، إن ما نابك منه يجنبك شره. قلب المؤمن زي البرق اللامع. وكانت بتدعي تقول: يا رب اجعل قلبنا أبيض من كفنا.
فلسفة جميلة لأيام أجمل تبسطها للعوام وثقافتها في محاورة أعالي الأقوام. رحمها الله وجنبنا المسيئين السفهاء.
ولما كنا نسرح بالخيال ونفتكر الناس زمان، كنا نقول بعد خيالنا في نفس واحد: الناس زمان كانت بتحب بعضيها.
شوف فلان دا اللي كان فاتح لنا البيت وكنا بنروح ونقعد ونتلم ونلعب لحد الصبح، ولا احنا لما كنا بنعزم الناس هماهم ويفضلوا بايتين عندنل بالليلة والليلتين وما نبطلش ضحك ولعب وفرجة ع التليفزيون. ونلاقي نفسنا فجأة سكتنا عن الذكريات وخرجنا تنهيييييييييييييييدة طويلة وقلنا ف نفس واحد: بس الناس زمان كانت بتحب بعضيها.
تفتكروا الناس ليه بطلت تحب بعضيها؟ هو الخير إيه اللي شاله من قلوبنا وزرع مكانه الحقد والحسد والغيرة والنكد والبُغض والكراهية؟
ليه الناس بطلت تتكلم وتضحك وتتنطط وتلعب وتبات عند بعضهم؟ ليه الناس بقت كدة؟ ليه وليه وليه؟؟ وفي الآخر نلاقي دموعنا نزلت على ذكريات الماضي وقلنا في نفس واحد: بس الناس زمان كانت بتحب بعضيها.
سيشوار
تداعبُ خصلات الشعر الداكنة تيارات هوائه الساخنة
تتمايلُ في عذوبة
تلمحها أخرى في مثل عمرها.. لم تره من قبل
تقلدُ حركاتها الانسيابية التي صنعتها التيارات
تطوفُ بأنظارها البائسة في هذا المكان
هذه تضعُ ثوبها
والأخرى تضع تاجًا بلؤلؤاتٍ فضية
تنزوي في ركنٍ بعيد
تتمنى أن كانت مثل هذه..
بل مثل تلك
تديرُ أحيانًا رأسها
تُخفي نظرات الدهشة كلما سمعت إحداهن تتحدثُ بخبثٍ إلى أخرى
فتُصيب ما لم تكن تريد هي سماعه
وفجأة
تُلقيه في يدها الرقيقةحين انتبهت أنعا تراقبهن جميعًا باستغراب
فيسقط من يدها لشدة حرارته
فتعلو قهقهات النساء
..........
رانيا مسعود
بعد أشهر من محاكمة الرئيس، تظهر المذيعة على القناة الأولى ترتدي زيًّا رسميًّا لائقًا بالمشهد ويجلس أمامها شابٌ ثلاثيني –كما يقولون- تحاوره المذيعة الحسناء ويجيبها في ثبات وثقة وكأن شيئًا لم يكن. يبدو منتشيًّا ساخرًا مما حدث. وإمعانًا في السخرية تطلب المذيعة من معد البرنامج أن يعرضَ لها المشاهد التي يُعلق عليها الضيف باستخفافٍ يُثيرُ أغلبَ المشاهدين الذين يستشيطون غضبًا لمجرد رؤية هذا البُرص أمامهم مجددًا. في أثناء حديثها إلى الضيف لا تنسى المذيعة الحسناء أن توجه له أسمى آيات الاعتذار والتبجيل والامتنان لمواقفه الثابتة رغم ما مرَّ بالضيف وأبيه وأخيه من مشاهد سخيفة حاول بها بعضُ المغرضين الحاقدين النيل من شخصه الكريم وكل أفراد عائلته الذين أفنوا حياتهم فداءً لهذا الوطن ولترابه، بدءًا من أبيه الذي خدم الوطن بشرف الجندية كمحارب، وانتهاءً بأخيه الذي فقدَ أعزَ ما لديه فلذة كبده ومع ذلك ذهب في مهمة خارج البلاد بصحبة أصدقائه ورفاقه لمؤازرة أبناء الوطن المخلصين في إحدى مبارزاتهم ضد الخصم اللدود. أما أمه فكانت تفني حياتها ليل نهار في خدمة المجتمع بقطبيه وتشغلها بخاصة قضايا الأسرة فهي نواة المجتمع الأولى التي تحرصُ على إنمائها كالنبتة القوية الراسخة في جذوره.
سرحتُ بفكري و هاتفتُهُ على الفور، وقلتُ له: أما كنتُ أقولُ لكَ منذ البداية استعد لاستقبال 85 مليون مواطن لديك ولدى زملائك في عيادات الأمراض النفسية والعصبية؟؟ أما قلتها لك من قبل؟ وقلتَ لي إذًا سأكونُ أنا أولُ مريض بها؟؟!!
أما الشارعُ فقد انقسم إلى قسمين: فهناك مَن ظل على رأيه وهو قليلٌ إذ لم يتبقَ له من الحقيقة ما لا يدع له مجالًا للشك فيما حدث ومَن أحدثوه. وهناك مَن قال: كنا نقول منذ البداية إنهم مأجورون ولم يصدقنا أحد إلا بعد خرابها. والناس في الشوارع تسير كالسكارى وما هم بسكارى. يخشى بعضهم أن يقع في المحظور فيُعرض نفسه إلى بطش أعداء الحق الذي أصبح باطلًا رغمًا عنه، فأراهُ يقول: لا لم أكن معهم، كنتُ أؤكد أن ما يحدث من مأجورين. وهناك مَن يرمي بكلماته شامتًا مما حدث ويطلقُ ضحكة تشقُ سماء الميدان: هأأو قلنا كدة وأديهم خربوا البلد...
أُتابعُ الموقفَ مذهولة، وأفركُ عينيَّ ربما كنتُ في بلدٍ غير بلادي كما قال الشاعرُ، أو ربما كنتُ أمارس لعبة المغضوب عليهم وفي غفلةٍ منَّا انتصر الضالون. أتحولُ إلى شارعٍ جانبيٍّ فما أكثر المتحولين!
وداعًا عم محمد
اقتربتُ من الباب لأحاول سحبه بالطريقة التقليدية وتلوتُ الدعاء سرًا فإذا بي أراها على نفس الكرسي تجلس ولكن هذه المرة لاحظتُ اصفرار وجهها وشحابته. اقتربتُ لأسلم كعادتي فرأيتها ترتدي الأسود على غير العادة، فدفعني الفضولُ أن أسألها، فأجابت: بابا توفاه الله. فقلتُ: متى؟ فقالت: قبل رمضان بيومين. لم أصدق ما قالت فأعدتُ عليها السؤال فإذا بها تؤكد لي مستنكرةً أن تكذب في مثل هذه الأخبار. حبستُ دموعي خاصةً أن عينيَّ كانت متورمتين بما يكفي من آثار الأنفلوانزا اللعينة. انسحبتُ بهدوء كي لا تتذكر فتبكي. دخلتُ أحاول نسيان الأمر. عم محمد كان يعمل هنا، كان يرتدي بدلة ويقابل الناس ويُدخلهم بعد الاطلاع على بطاقات العضوية أو تذاكر الحفلات. ابنته صديقتي كنا قد تعارفنا في حفلٍ وكنا نتفق على أمورٍ نفعلها معًا. في يومٍ من الأيام جاءتني إيمان بخبر تعيينها في نفس المكان حيثُ يعملُ والدها، فرحتُ بالخبر لأنني سأراها كلما دخلتُ المكان إلا في يوم الثلاثاء الإجازة الأسبوعية لها ولوالدها عم محمد. كنا لدى عودتنا إلى المنزل أحيانًا نركب معًا، كنتُ أحيانًا لا أريدُ أن أثقل كاهله بثمن التذكرة التي يصر على دفعه، رغم بساطة الأجر فإنني كنت أشعرُ بالحرج. كان يُشعرني كم أفتقد الأب الذي تشد على ذراعه ابنته في غدوها ورواحها. كنتُ أسمعهما يتجاذبان الحديث عن أمورٍ بالعمل. كان يحكي لي أحيانًا مواقف في العمل أو في حياته الخاصة. كم كان يشبه أبي! لكن أبي لم يكن في طيبته. أحيانًا كنتُ أراه عصبيًّا، لكن شعوري بالحماية الذي كانت تحيطُ بابنته وهي تتمسك بذراعه لتعبر الطريق و يدي في يدها كان يُزيدني أمانًا و طمأنينة. مات عم محمد. ومات قلبٌ جديدٌ كنتُ أتمسك برؤيته في أفعال الحنان الأبوي الجميلة مع ابنته. مات عم محمد لأنني لا بد أن أتركها بما فيها من جمالٍ وزينةٍ زائفة...الدنيا.
كنتُ في الكلية عندما غافلني وسط الزحام أحدُهم و أعطاني ورقة عشرين جنيهًا مزيفة. هرعتُ إلى مكتب قائد الحرس بالكلية و الذي توسمتُ فيه خيرًا ما أنزل الله به عليه من سلطان. إذ تهكم و أخذت السخرية منه مأخذًا دفعه ليقول: عارفة كام ورقة من دي مزيفة في البلد؟ دا رئيس الجمهورية زمانه معاه منها. و لما طالبته باتخاذ أي إجراء أو موقف يثلج صدري و لم يجبني إلا بنفس نبرة التهكم و الاستهزاء، قلت له إنني سأذهب إلى عميد الكلية. فقال: إن شالله تروحي لرئيس الجمهورية.
وفي غرفة العميد أنكرت السكرتيرة وجوده كالعادة. ذهبتُ لوكيل العميد فإذا بالسكرتيرة ترد ببرود و هي تقرأ الجريدة: مش موجود و لو موجود مش فاضي لك. فقررتُ أن أذهب إلى رئيس الجامعة. و في طريقي انضم إليَّ زميلٌ بالجامعة، وصلنا لمكتب السكرتير فإذا به ينهرنا و يدفعنا بعيدًا عن المكتب بحجة إننا متطاولون. أتوجه إلى أمين الجامعة و هي سيدة آنذاك، لأقابل بحفاوةٍ لم أجد لها نظيرًا من قبل لدى أي مسؤول آخر بالجامعة. استمعت السيدة إلى كل ما قلت في تركيزٍ بالغٍ و أمرتني أن أضع الورقة ضمن شكوى كتابية أتوجه بها رسميًّا إليها لتقوم بما يلزم.
خرجتُ من غرفتها و قد اطمأن قلبي انَّ هناك أشخاصًا مازالوا مرضى بالضمير سيتفاعلون معي. تذكرتُ نائب أمين الجامعة وقتها أو مساعد الأمين و الذي كان قريبًا لزوجة خالي و كانت دومًا ما تحدثنا عن دماثته و أخلاقياته و تواضعه، و توسمتُ فيه خيرًا أكبر مما توسمته من قبل في قائد الحرس. طرقتُ البابَ، و دخلتُ. استمع إليَّ دون أن أوضح له قرابتي بهِ و قال لي في استنكار: إذا كان أمرُ العشرين جنيهًا يُزعجكِ فإليكِ أخرى بديلة و لا تُحرري شكوى، فقلتُ له باندهاشٍ: كيف هذا؟ فقال: أنتِ مازلتِ بعد صغيرة السن و لم تري من خبراتٍ و لم تمرُ عليكِ مشاكل في حياتك. فسألته: و ماذا عن القيم و الأخلاق و المصلحة العامة و الوطن؟ فأجاب: كلها موجودةٌ في كتب الدراسة لتنجحوا و تتفوقوا و تمرُ عليكم سنوات الدراسة.
كانت الصدمة أكبر مني إذ أنني لم أعتد هذا من أحد. إذا كان هذا الرجل و غيره ممن يشتهرون بحسن الخلق و التواضع و الأخلاق لا يضربون على أيادي الآثمين في المجتمع و يستهينون بهذا الأمر الجلل، فمَن لي و لغيري؟
قررتُ من يومها ألا أقتني الكتب و ألا أقرأ كي أُريح عقلي و لا يؤرقني ضميري كلما رأيتُ من يغتالون الضمير و الحق رغم ما نسمع به عنهم من أخلاق.
لكنني أعودُ اليوم و بعد فترة لكتاباتي و قراءاتي و لكن ليس بمثل ما كنتُ يومًا بحماسٍ يدفعني بضميري أن أقرأ و أقرأ لأننا ليس علينا أن نصدق كل مَن نقرأ لهم. ليس علينا أن نصدق مَن نقتني كتبهم. فما عاد لي أصدق من كتاب الله قيلًا كي أهجع إليه وقت ضيق صدري مما يفعلُ كبار الكتاب و الشعراء لتسقط عنهم مرآة الواقع المر المُحلَّى بزيف كتاباتهم.
رانيا مسعود