عشت طوال حياتي أرى الناس من حولي يتباغضون ويتحاسدون. أراهم يتنافسون ويتصارعون على أشياء كثيرًا ما بدت لي تافهةً.
وأنا أعترف اليوم أنني من النخبة، ولكني نخبة بشكل مختلف وعلى طريقتي التي تختلف تمامًا عن طرق النخبة المصطفاة من باقي الشعب.
كنتُ أردد كثيرًا قبل أحداث الخامس والعشرين من يناير أنني لن أنزل لأطالب بحقي إلا عندما تحدث ثورة حقيقية تشارك فيها جموع الشعب وتتفق على إنهاء الظلم الواقع عليه. وعندما قامت الثورة كنتُ أشاهدها وأنا على بعد خطواتٍ منها من سيارة عملي حيثُ كانت جموع الشباب تقفُ بالتحرير وأنا في سيارة مكيفة تغلفها صنوف الحماية عن أي يد تقترب من الموجودين بداخلها.
كان قلبي مع الشباب يرفرف بالهتاف، وكان السائقُ بجواري يحذرني من أن أنهي العمل وأنضم لهم لأنني كنتُ أعمل معه من مدة وكنتُ أتحدث إليه في أمورٍ كثيرة لم تكن تعجبني في البلاد وأنها حانت لحظةُ الانفراج وقد وجد الشباب متنفساتهم في الوقفات الاحتجاجية.
أنهيتُ يومي بعملي وقد ألح السائق أن يأخذني إلى المنزل ولكنني رفضتُ إلا أن يأخذني لأقرب نقطة من وسط البلد وهو يستحلفني ألَّا أنضم إليهم وأنا أعده أنني لن أنضم لأن أمي وإخوتي بالبيت ينتظروني.
خرجتُ من السيارة ومشيت من شارع 26 يوليو حتى وصلت إلى المنزل بعد إرهاقِ يوم العمل.
كنتُ أعلم أنها ربما تكون الأيام الأخيرة التي أعمل فيها نظرًا لما تمر به البلاد من أوضاع غير مستقرة.
المهم أنني عدت إلى المنزل وانتظرتُ أمام الشاشات وأهمها شاشة الكمبيوتر التي لا تنطفئ تمامًا منذ هذا الوقت. تابعتُ الأمر على شاشة التليفزيون وأنا على يقين تام بأن شاشاتنا المصرية تكذب بمنتهى الصراحة التي يكفلها لها نظام مبارك. لذلك لم أدر محرك القنوات عن القناتين التي تابعتهما طوال أيام الثورة: البي بي سي (عربية وإنجليزية) والجزيرة.
نعم أعترف أنني كنتُ كما يطلقون عليَّ البعض (كنباوية) ومازلت لأن الثورة التي رأيتها تقتل آلاف الأبرياء ما ظننتها ثورة حقيقية باستئذان النظام أن يسقط، وإنما كانت معركة أدارها النظام السابق وما يزال في دائرة إدارتها حتى الآن لينقض علينا بعد أن تقوى مخالبه، وبعد أن يتملكنا الضعف بأن يقضي بعضنا على البعض الآخر.
اليوم الثاني للمظاهرات يوم السادس والعشرين من يناير 2011 كنتُ أستعدُ لحضور مسابقة للحديث عن رواية أدبية، وعندما ركبت الحافلة للذهاب في موعدي قرر السائق تغيير المسار نظرًا لشدة الاشتباكات، ولإصراري على حضور المنافسة ذهبتُ سيرًا على الأقدام مرورًا بشارع 26 يوليو الذي ما إن سمعتُ أذان المغرب حتى رأيت جموع الشباب تهتفُ بسقوط مبارك من أول الشارع إلى آخره، ووجدتُ صفوفَ الأمن المركزي على جانبي الشارع ولواءات الشرطة من خلفهم بأجهزتهم اللاسلكية يتحدثون إلى القيادات العليا ، وضباط الشرطة الذين يقذفون بأنفسهم وسط جموع الشباب التي لم تتزحزح عن موقفها وهتافها وتستمر الاشتباكات بقنابل الغاز السيئة الرائحة ويهالني ما كانت تتعامل به الشرطة مع الفتيات والشباب من طريقةٍ أبسط ما يصفها هو الغباء.
بعدها سرتُ باتجاه الكوبري العلوي الذي يشق شارع 26 يوليو ويؤدي إلى الوصول إلى الزمالك عن طريق السير إلى الأمام باتجاه أعلى الكوبري العلوي المؤدي إلى الزمالك. ورأيتُ قوات الأمن وتكسير الزجاج وكاميرات ومعدات تصوير تعلو صيدلية الإسعاف، وكدتُ أنهار مما أرى. ووجدتُ أطفال عائلةٍ يبكون مما يرون مذعورين مما يحدث، وجذبتهم إليَّ مع أمهاتهم لننطلق في حافلةٍ أخرى ستسير بنا من طريقٍ آخر لنصل إلى الزمالك.
في الطريق الذي يمر بماسبيرو وجدتُ رجال الشرطة السرية تمسكُ بأي شابٍ أو فتاة وتنهال عليه ضربًا، كما وجدتُ من يسارع بالجلوس في الحافلة بعد الركوب مختفيًّا من الأحداث، والأطفال مازالوا يبكون ويصرخون بعد أن هدأت أمهاتهم من روعهم قليلًا قبل أن نمر بهؤلاء الذين صعدوا إلى الحافلة بهياجٍ شديد يريدون اعتقال أي شابٍ اعتقالًا عشوائيًّا. من نافذة الحافلة أرى رجال الشرطة السرية أيضًا بالتعاون مع رجال الشرطة العاديين يجذبون من أيادي أصحاب (الحناطير) السياط ويضربون بها على رؤوس الشباب. تذكرتُ حينها حديث رسول الله عن هؤلاء، وكدتُ أنهار بما سمعت من صراخ الأطفال معي بالحافلة.
غادرنا قلب الأحداث وتوجهنا إلى الزمالك وما إن رأيتُ صديقتي حتى وجدتني أرتمي في صدرها لأهدئ من مسحة الهلع التي انتابتني.
وقفتُ كأول متسابقة على المسرح أحاول أن أسرد الرواية وأتحدث عنها بالاستعانة ببعض الأوراق. وانتهت المسابقة ودق هاتفي فإذا بالبيت يريدون مني أن أتوجه إلى محلنا بالزمالك حيثُ يقلني خالي في سيارته إلى المنزل بسلام. وبالفعل كان ورافقتني صديقتي وخطيبها.
عدتُ إلى المنزل أتابع في شغفٍ شديد وأحكي ما رأيتُ من أحداث خطيرة، وأمي تطمئنُ أنني أقف أمامها بسلام في كل كلمة أروي بها إليها ما رأيت.
اليوم التالي أتابع نفس القناتين والأحداث تشتعل على المواقع الاجتماعية وأتابع كافة الأخبار من بعيد.
حتى يوم الثامن والعشرين الذي شعرت فيه صباحًا أن الأمر لا يبدو على ما يرام عندما كانت أختي الصغيرة تستعد لتذهب إلى صديقتها التي تسكن في منطقة الحسين. رأيتها تسرع في ارتداء ملابسها وتحضير شنطتها ويتصل بها كثير من الأصدقاء صباحًا على هاتفها المحمول وهاتف المنزل. وأشعر بأنها تكذب وأن شيئًا ما مريبًا سيحدث. أسأل أمي فتجيبني إنها ستكون في بيت صديقتها مع مدرس التاريخ. وأذهب لأفتش عن أرقام هواتف كل الصديقات في دفاترها لأسأل عنها لأن الأمر لا يريحني ويقلقني بشدة. تنتهي صلاة الجمعة وتبدأ الاشتباكات في محيط الجامع الأزهر وأتابع على القنوات بعد أن انقطعت الاتصالات تقريبًا.
أرى الاشتباكات وأقرر النزول بعد أن تصيدتُ رقم هاتف منزل جدة الصديقة التي أخبرتني بأن هاتفها الأرضي لا يعمل، وأسألها عن العنوان تفصيلًا، وأرتدي ملابسي دون أن أخبر والدتي بأمر أختي، فقط أطمئنها وأنزل مهرولةً وأختنق من كثافة الدخان وأشاهد بعض المصلين المتجهين تحت كوبري الأزهر إلى ميدان باب الخلق حيث حاصرتهم الأجهزة الأمنية بالعصي وسيارات الأمن المركزي. أجري كالمجنونة بينهم لأراها وأنا أبكي ولا أعرف أين تكون! ربما هي هذه أو تلك، وأهرول مع الجموع من المصلين حتى تجذبني امرأة بالشارع كي لا يخنقني الدخان. أعيدُ الأمر في عقلي لأرى أختي الصغيرة تعود إلينا مقتولة في ملابسها وأراني أحاول أن أتمالك نفسي كي لا أفقد أمي، وأقول في نفسي: لو أن أمي بالمنزل لم تصل إلى مسامعها أخبار أختي حتى الآن فلماذا لا أعود لأكون بجانبها كي لا تكون وحدها بالمنزل إذا ما استقبلت خبرًا سيئًا؟!َ وماذا لو انطلقتُ أبحثُ عنها وأصابتني طلقاتهم وبدلًا من أن تفقد واحدة تفقد اثنتينا وربما تفقد حياتها من بعدنا؟!
عندها قررتُ أن أعود إلى المنزل وأطمئنها على أختي وأتكتم خبر عدم وجودها ببيت الصديقة. ولدى عودتي وجدتها تبكي متورمة العينين وأرى أن الخبر قد وصلها بالفعل، فعندما ذهبتُ لأتأكد من وجودها ببيت صديقتها وعلمت بأنها لم تذهب غادرتُ منزل صديقتها مسرعة التي اتصلت بأمي لتروي لها ما حدث بعد أن عادت الحرارة إلى هاتفهم الأرضي.
ظللتُ حتى الثامنة مساءً أمام شاشة التليفزيون أتابع الجزيرة والبي بي سي والهاتف الأرضي لا يتوقف بسؤال كل الأهل والأقارب هل توصلنا إلى مكانها، وأمي تزداد بكاءً وأنا أحاول أن أخرس كل الألسنة كي لا تزيد أمي في البكاء وكفاها ما كانت فيه من حالة من ارتفاع ضغط الدم والبكاء المستمر. حتى طرقت الباب في الثامنة مساءً الصغيرة وهي لا تنطق. أدخلتها بعد محادثات استمرت بينها وبين بعض أقاربي وأمي تنوي أن تلقنها درسًا بضربها، وأهدئ من كافة الأطراف وأخفيها لتدخل إلى حجرتها سريعًا وأغلق باب المنزل.
لحظات من القلق عشتها مع أختي فكيف بمَن أراه يعود إلى أمه في كفن؟!
حبيبتي مصر
لم أكن فيكِ مرتاحة في سنوات دراستي ولا في محاولاتي للحصول على عملٍ بعدها، ولكني ارتحتُ في أيام القلق اللذيذ الذي بتُ أحاول الإفاقة طوال الليل وكل مَن بالمنزل تحت شباكي وأنا أتخيل سيناريو العصابات المخيفة تقتحم المنزل في أي وقت وأنا أدافع عنه وعن أمي وأختي وأفديهما بروحي تمامًا مثلما كان يروي لنا ونحن صغار في المدرسة أستاذ/ مصطفى من مقاومة شعبية تصدت بها النساء في البيوت لهجوم العدو المغتصب وحررت أرضها.
هالني منذ أيام ما رأيت من لعبةٍ يلعب مدربوها على المناصب، ومصابٌ على عكازيه يغادرُ المسرح ويقول بأعلى صوته لآخر: إحنا أحسن من كل دول، فأرى في نفسي كيف وصلنا إلى أن نمجد أنفسنا على حساب قتلانا..!
رانيا
بالمناسبة هذا اسمي فقط لأنني لا أرى بيني وبين شكلي وتفكيري واسمي سوى أن الثلاثة يجتمعون في ولا أرى أحدًا يهتم لذلك فكفى أن ترى الشكل لتدرك أن الاثنين الآخرين - وربما عليهما أشياء أكثر بكثير في داخلي - لا ينتميان إليَّ.
تخرجتُ وعندي أحلامٌ كثيرة لي ولغيري.
لا أريدُ سياراتكم التي تعزلني عنكم فلا أشعر بكم ولا بمعاناتكم.
أسير بينكم وأتمنى أن أصبح هكذا طوال حياتي أو على الأقل حتى الساعات الباقية فيها.
حلمت يومًا أن أكون معلمة وقد كان، وحلمت أن أكون صحفية وقد كان، وحلمت أن أخترق الشاشة التي أنظر إليها منذ صغري وقد كان، وحلمت أن أسير بين المعابد والمقابر والتماثيل وأشرح للناس تاريخ بلادي وحضارتها وطبيعتها وقد كان، وحلمت أن أكون أمًّا تربي ابنًا يصبح قائدًا وربما يكون وربما لا.
ولكنني أراني وسط من يدعي انتماءه للنخب السياسية والاجتماعية والفكرية أنني: أنا النخبة.
أنا النخبة ولا أطمحُ في المزيد.
أنا النخبة التي أحالها قانونكم إلى سن التقاعد عند الثلاثين، وأحالتها العادات والتقاليد ونظرات المجتمع إلى التقاعد عن سن الزواج بعد الخامسة والعشرين.
أنا النخبة التي لم تخرج في الخامس والعشرين ولا في الثامن والعشرين لأنها لا تصدق وعود الكبار ولا تهتف لدبابة ولا تلتقط صورةً بجوار مفتولي العضلات من رجال القوات المسلحة ولا تحضر حفلة لتتغنى بمصر وتقول لها: أنا بحبك يا بلادي.
أنا النخبة التي لم تنتمِ لحزبٍ أو جماعة ولا تنتوي ولن تنتمي.
أنا النخبة التي لا تريد سوى قدمين وعقل وجنيه واحد في الجيب ودراجة وعمل بسيط حتى لو كانت أسرتها تغنيها عن ذلك.
أنا النخبة ولا تتشرف أن يكون لها زوج سيارته تخترق الحارة الشعبية البسيطة التي تسكنها لتغيظ بها القريبات والجارات.
أنا النخبة التي لا تتشرف أن تبلغ العشرين بعد سنواتٍ أربع تقضيها في تعليمها الجامعي وتمد يديها لأبيها وأمها وأخيها لترتدي وتتصدق وتتعلم وتعمل وتترقى وتطلب ترفيهًا في أشياء ثانوية قد يعز على غيرها أن يبلغها حتى وإن تيسرت له كل السبل إليها.
أنا النخبة ولم تشتريني ولن أُشترى بأموالكم ولا مناصبكم.
أنا اخترتُ أن أكون النخبة وألعب وأمرح وأتعلم وأعمل وأتعرف بكم وأراكم وإن لم أنفق وسع ما أنفقتم.
أنا النخبة وسوف أظل النخبة ولا تعنيني من دنياكم سوى بالونتي الصغيرة وورداتي الرقيقة اللون الطيبة الزكية العطر.
أنا النخبة ولا أريد ما لا تساوي عند ربي جناح بعوضة.
أنا النخبة وأنتم لا شيء...