أول مرة سافرت فيها لوحدي ومن دون الأسرة مع 52 بنت من جامعة عين شمس في قطار ضم حوالي 60 فتاة من كل جامعات مصر من قبلي وبحري. كانت أجمل أيام عمري بعد أن فَوَّت أبي عليَّ فرصة السفر إلى المغرب عندما ألحَّت عليه مدام/حفيظة صالح بو شعيب أمينة مكتبة مركز شباب الجزيرة آنذاك أن أكون ضمن وفد يمثل فتيات وشباب مراكز الشباب في مصر وقد بكيت لأبي لأذهب، لكنه أصر على عدم ذهابي. وعندما أنهينا معرض جوالة كلية الألسن كان على الكلية أن تكافئنا، وقد جاءت المكافأة بترشيحي أنا وزميلتي دينا للتسجيل في رحلة الأقصر وأسوان. في البداية خِفتُ أن يكون رد أبي بالرفض على هذا الترشيح هذه المرة أيضًا، وذهبتُ أتوسل إلى أمي أن تقنعه. كاد أبي يرفض، لكنني واجهته بقرار رفضه السابق لرحلة المغرب، وتذكرته عندما كان يقول لي: أنا قلت مرة طيب ولازم أقول لأ. وكنت وقتها أسمع لكلامه وأنا في غاية الألم. وهذه المرة كان عليه أن يقول:طيب وألا يقول (لأ) كما ذكرته.
الحمد لله كانت إجراءات السفر سهلة فذهبت أنا ودينا إلى المدينة الجامعية للبنين ودفعنا المبلغ المطلوب وسلمنا أوراق عليها توقيعات أولياء الأمر بالقبول.
كنت أشتاقُ كثيرًا لرؤية التماثيل العملاقة المرسومة على العملة المصرية فئة الجنيه، وكنتُ أتخيل نفسي بجوارها وأنا أقوم بتصويرها أو يقوم أحد بالتقاط الصورة لي. لم أكن أتخيل أبدًا كيف سأبدو وأنا لأول مرة بعيدة عن المنزل. لكن أكثر ما كان يهمني هو كيف سيكون القطار، وكم هو رائع أن أركب القطار لأول مرة بعمري وأنا التي أمضيتُ عمري أتابع الأفلام والمسلسلات التي تصور بعض مشاهدها في القطارات!!
ذهب أبي معي إلى محطة القطار لنركب جميعًا القطار في الحادية عشرة مساءً. ودخلنا عربة القطار أنا وكل الزميلات التي كنت أحاول التعرف عليهن وأراقب اختلاف أمزجتهن وتصرفاتهن بفضول شديد. وأخرجتُ كغيري منهن بطانيتي لأستدفئ بها طوال رحلة ننام فيها حتى نصبح في أسوان أولًا. لكنني بمجرد افتراشي للبطانية أنا وزميلتي دينا سمعتُ الفتيات وقد بدأن في الغناء والرقص. عندها قررتُ أن أستمتع معهن حتى الصباح. وأجمل ما سمعتُ من الفتيات كانت أغاني الجوالة التي كنا في بعض الأحيان نستمتع بها في أثناء معارض الجوالة ولكن لم نكن ننصت إليها ونغنيها ونحفظها بنفس الصورة. مازلتُ حتى اليوم أتذكرها فقد حفظتها عن ظهر قلب: عين شمس يا حتة سكرة...عين شمس يا جامعة منورة...جايين من كل مكان جايين نعملو قلبان...إلى آخر الغنوة.
أتذكر أيضًا غنوة: لاي لاي لاي لاي لا لاي لا لاي لاي لالا.. لا لاي لا لاي لاي لالا.. لا لاي لا لاي لاي لااااااي..
ما تصلوا على نبينا جايين نشوف بعضينا بالحب جينا نعيد ماضينا ونرجع اللي كان..
واحد واحد واحد واحد واحد يجيب عصاية..ييجي يرقص معايااا بالحب جينا نعيد ماضينا ونرجع اللي كااان.
خمسة خمسة خمسة خمسة خمسة هنا وهناك..واللي يعادينا واك واك..وا واك وا واك وا وا واك وا واك وا وا واك وا واك واك واااااااك..
رشوا رشوا رشوا رشوا ما ترشوا ملح علينا ..
يا ترشوا انتو يا نرش إحنا ...إلخ
لكن عندما غلبنا النوم اضطررنا أن نستلقي على الكراسي ونفرش البطاطين من جديد.
في هذا الوقت كنت أحاول التعرف على الفتيات وأقترب منهن بشكلٍ أكبر. كونتُ صداقات ومعارف سطحية بسيطة لكنني كنت متأكدة إنها ستختلف بمجرد أن تمتد العشرة خلال أسبوع الرحلة.
أما المشرفة فكانت شديدة الشبه بمشرفات دور الملاجئ والأيتام ومشرفات الرحلات في أفلام السينما والمسلسلات السخيفة، وكانت هناك بعض الفتيات ممن تقربن إليها وتوددن لكي تتيح إليهن الفرصة في نيل بعض من الحرية الممنوعة للأخريات.
وصولنا إلى محطة أسوان كان شيئًا جميلًا بالنسبة لي إذ كانت بعض الفتيات يحكين عن طيبة أهل أسوان وكرمهم وحسن معشرهم. ولن أنسى عندما نزلنا بأول ندوة أو لقاء تحدث فيه أحد المسئولين عندما قال:"إن من طهر ونقاء تراب أسوان كانت المرأة الأسوانية تسير عليه حافية القدمين.." وساعتها غمزتُ صديقاتي من حولي وقلت لهن:"هي ما كانتش ماشية حافية علشان طهارة الأرض.. هي كانت لقيت شبشب ساعتها وما لبستهوش؟؟(هههههههه)" وبعدها أخذوا في تعريفنا بالمكان الذي نزلنا فيه وهو (نُزُل مبارك) بجوار ستاد أسوان.
صراحةً لن أنسى نظافة المكان واتساعه وجماله وتنظيمه وتنظيف القائمين عليه ومعاملتهم الحريصة لنا وللأشياء حتى تذكرت كلام الجميع عن أسوان وأهلها وطيبتهم وحسن معشرهم. وجاء وقت تناول الغداء وكنا قد تلقينا قبلها تعليمات بأوقات الغداء والعشاء والإفطار والمواعيد وانتهائها وبدايتها. وكان ضمن التعليمات (كوبون الوجبة) فإذا ضاع كوبون الوجبة، ضاعت الفرصة في الحصول عليها؛ لذلك كنا نحرص على الحصول عليه والحفاظ عليه بشدة للتنبيهات المتكررة بشأنه.
أتذكر ذات يوم نسيتُ (كوبون الوجبة) وخِفتُ أن يفوتني تناول الغداء مع صديقاتي فأخرجتُ من جيبي ما يُشبهه من تذاكر أتوبيس قديمة كنت قد احتفظتُ بها ،فأعطيتها للمسؤول دون أن يلتفت إلى نوع التذاكر المقدمة إليه.
أما الغرف فكانت واسعة بصورة خيالية والحمامات كانت نظيفة للغاية ومن فرط نظافة المكان كنا في غرفنا نمشط شعورنا على الأسرة خشية أن تسقط شعرة واحدة على الأرض.
كنا في الطابق الثاني حيث كل جامعة كان لها طابق معلوم. ففي الطابق الثالث كانت فتيات جامعة الأزهر وفي الجهة المقابلة لنا في نفس الطابق فتيات جامعة المنوفية. وغرفتنا التي نزلنا بها نحن العشرة من كليات مختلفة بنفس الجامعة: عين شمس، وكنا على هذا الترتيب:
أنا ودينا في آخر سريرين بالغرفة وبمواجهتي شيماء يوسف وعلى يميني إيناس. شيماء يوسف وأمل في كلية التربية النوعية في الفرقة الرابعة مثلي أما إيناس فهي الفتاة الجميلة التي أعجبني للغاية سلوكها وأعجبتني ثقافتها وطريقتها في الحديث عن والدها الذي كان حريصًا على تدعيمها بكافة ألوان الثقافة والمعرفة حتى إنني انبهرتُ بها وبشخصيتها كثيرًا. وهناك أيضًا كريمة وهي من كلية التمريض وهدى صاحبتها بنفس الكلية وكانا يتجاوران في الأسرَّة أيضًا. ودنيا الجميلة ذات الشعر المنسدل على ظهرها والذي تميزت به وبطوله وهي في كلية الحقوق. وأمل بكلية التربية النوعية زميلة شيماء يوسف ونورا في كلية البنات ، ورانيا طالبة بكلية التجارة.
انسجم بعض الفتيات مع بعضهن في بادئ الأمر وكنت أنا خجولة الطباع في البداية وأخشى الاقتراب منهن، لكن بمرور الوقت تعارفنا وأصبحنا لا نفترق أبدًا. كنا نغني ونضحك ونرقص بالغرفة ونشتري السوداني والمشغولات الأسوانية والحناء معًا من السوق أثناء الجولة الحرة. وكانت فتيات جامعة الأزهر في الجولات الحرة يركبن الحنطور وحدهن ويقمن بالرقص في الشارع وعندما يسألهن أحد من أي الجامعات يكن، كُنَّ يُجِبْنَ: من جامعة عين شمس.. هكذا قالت لي إحداهن وأنا أتبادل معها الحديث بعد انقضاء الليلة وبعد تعب وإعياء شديد وصل بالجميع أن ذهبن إلى المطعم ليتناولن العشاء وأنا أخذت مفتاح الغرفة من الفتاة المسؤولة عنه ووعدتها أن تجدني بالغرفة، فإذا بالحديث يأخذني مع فتاة جامعة الأزهر وأصعد إلى الطابق الثالث معها ونتبادل الحديث أنا وعشر فتيات أخرى في غرفتهن وأنسى تمامًا نفسي وينسى الجميع أمري وأظل معهن بالغرفة نضحك ونتسامر ونتجاذب حلو الحديث، وأنظر فجأة في الساعة فأجدها جاوزت الحادية عشرة وأقرر النزول، لكن باقي الفتيات يتجاذبنني لأمكث معهن وقتًا آخر. فأستكمل الحديث ونضحك ونضحك ونضحك، ثم أحاول الانسحاب مجددًا ويحاولنَ إيقافي، فأعتذر منهن وأحكي عن (المقلب الساخن) لباقي فتيات غرفتي، فيضحكن أكثر وأكثر...
أنصرف وأنزل إلى الطابق الثاني فإذا بالتسعة ينتظرنني على باب الغرفة ويتوعدنني بالضرب. وعندما أنزل بكل هدوء لأقف بينهن تنقض عليَّ كل فتاة منهن وتأخذ في التوبيخ والضرب بالمزاح والسخرية، وعندها أنفلتُ من تحت أيديهن كما ينفلتُ الفأر جيري من بين براثن القط توم في الكارتون الشهير...
كانت ليلة جميلة تبادلنا فيها الضحك والمزاح أيضًا.
لم يكن يحلو لنا أكل اللب والسوداني والمسليات واللعب بأوراق الكوتشينه إلا فوق سريري الذي هو في آخر الغرفة. وبعدها أنظف الملاءة من النافذة المجاورة بمساعدتهن وننام.
في الصباح نذهب في الأتوبيسات إلى مكان أجمل من المكان الذي ذهبنا إليه في اليوم الذي يسبقه.
فذهبنا إلى المسلة الناقصة والنصب التذكاري ومتحف أسوان وجزيرة النباتات ومعبد فيلة والمسلة الناقصة والسد العالي... كلها أماكن جميلة كنتُ أتمنى الذهاب إليها..
أجمل ما تميزت به غرفتنا إننا كنا في كل يومٍ تُضلُ إحدانا الطريق إذا ما سارت بمفردها في مكان، رغم تحذير المشرفة. لكنني أنا الوحيدة التي لم تُضل الطريق أثناء الرحلة كلها، فقد كنتُ دومًا ملتصقة بأي فتاة من جامعتي أو حتى على الأقل من أي جامعة أخرى.
بعد انقضاء الأيام الجميلة بأسوان ودعنا المكان الجميل، ثم ركبنا الأتوبيسات لنذهب إلى الأقصر. وهناك كان المبيت في مركز شباب أقل بكثير في النظافة والهدوء والراحة من نزل أسوان. حتى إننا قد بَدَّلنا كثيرًا معاملتنا للأشياء، فإذا بنا ننتقم من الغرف الرديئة ونتوعد أن نجعلها في آخر يومٍ لنا المبيت أسوا وأردأ ما يكون.
في الأقصر كنت منبهرة كثيرًا ببرنامج الرحلة وأماكن الزيارات والآثار الكثيرة وكنتُ أتمنى أن يكون معي كاميرات فيديو تنقل لحظات السعادة والدفء والسرور والفرح التي دامت بيننا. ركبنا الحنطور في نزهة جميلة على كورنيش الأقصر، وركبنا مركبًا في النيل، وذهبنا بصحبة الجامعات كلها إلى الصوت والضوء ليلًا.
كنا في الغرفة مضطرات أن ننشر ما نغسل من ملابس ولكن أين؟ فقمتُ بتجميع أكياس وجبة الإفطار وعملنا حبلًا لننشر عليه غسيلنا. وبالفعل كنا ننشر عليه ما خفَّ وزنه وثقلت قيمته...هاهاهاااااااا
وفي ليلةٍ ذهبنا إلى عرض الصوت والضوء الذي كنا نرتعد فيه خوفًا من أصوات الموسيقا والممثلين، وكانت خلفيتنا عن الفراعنة وقدماء المصريين محاطة كثيرًا بخرافات لعنة الفراعنة التي ما إن بدأنا في الاحتشاد في المكان ليلًا، حتى بدا العرض كئيبًا مخيفًا أكثر من مجرد سماعنا لأصواته من الخارج، فقررنا أن نغلب الأصوات بأصوات ضحكنا ومزاحنا فكانت أجمل ليلة قضيناها جميعًا حتى إننا كنا نبكي من الضحك بشدة.
عندما عدنا إلى المبيت وعادت معنا أجواء الخوف ذاتها من الموسيقا والمؤثرات الصوتية وأداء الممثلين، حاولنا النوم وأخذنا نتجاذب المزاح وتعلو ضحكاتنا من جديد. وكانت دنيا وأمل وإيناس قد اشترين بعض التماثيل والمسلات ونقشن عليها أسماءهن، ووضعنها على الأرض، فإذا بي وكنتُ ساعتها في الدور العلوي -أقصد السرير- ألفت أنظار من في الغرفة جميعًا بعد أن كدن يدخلن في نومٍ عميق إلى الضوء المُسَلَّط على التماثيل والمسلات الموضوعة على الأرض بجوار أسرتهن. استيقظنا جميعًا مفزوعات وفي أذهاننا فكرة لعنة الفراعنة لما قد ارتكبناه من مضايقاتٍ للفراعنة أثناء الحديث في الصوت والضوء. وتسللنا إلى مصدر الضوء المنبعث ومعنا أحذيتنا وأسلحتنا البسيطة لنحاول مقاومة اللعنة بمنتهى التفاني في الأداء، وإذا بنا نكتشف عندما نفتح الباب إن المشرفة قد نسيت إحدى لمبات الصالة الخارجية مضاءة حتى انعكس ضوؤها وتسرب من تحت الباب وصنع بنا ما صنع. لكننا لا ننسى أبدًا مقدار الرعب الذي أُلحِقَ بنا يومها من جراء ما فعلنا من سخرية من كل ملوك الفراعنة أثناء العرض.
في أحد الأيام وقبل الرحيل قررنا أن نذهب إلى البر الغربي حيث خبرت إحدى الفتيات بوجود عيدان القصب فيه دون أي أصحاب وأن علينا أن نعبر البر باستخدام العبارة لنصل ونحصل فقط على عيدان القصب مجانًا. وبالفعل كانت رحلة ممتعة للغاية ركبنا فيها إلى البر الغربي وأحضرنا أنا وإيناس وشيماء وكريمة القصب بينما كان الباقي ينتظرنا بالغرفة في المبيت، ودخلنا المبيت ونحن نغني: سلَّم عليَّ سلم عليّ لما جابلني وسلم عليّ ولدي يا ولدي سلم عليّ...
وحاولت باقي الفتيات انتزاع عيدان القصب منا لكننا دخلنا سريعًا إلى الغرفة وأغلقنا الباب بالمفتاح وأخذنا نغني بأعلى صوتنا ونرقص على هذه الغنوة.
في البلكونة جلسنا نمص القصب ونمضغه بفرحٍ شديد والتقطنا جميعًا الصور بالقصب في أيدينا وبين أسناننا...
في طريقنا للعودة بعد أن سلمنا غرفتنا كآخر غرفة تفاجأ المشرفون بها فيما بعد نظيفة ظاهريًّا بينما تحوي مخلفاتنا من البيض المسلوق الفظ الرائحة الذي كنا نكره أكله في الوجبة الغذائية اليومية كل صباح والذي قررنا أن نقذفه تحت الأسرة كانتقامٍ من إدارة المكان التي لم تولِنا نفس العناية التي وُلينا بها في نُزُل أسوان، كان الوداعُ للمكان الجميل الذي ضم أجمل ذكريات عمري أسوأ ما في الرحلة. لكننا تواعدنا أن نبقى أصدقاء، حتى جمعتني الصدفة والتقيتُ بشيماء ورانيا مجددًا، ولكن باقي الفتيات انصرفن إلى حيثُ ساقتنا أقدارنا على وعدٍ لي بلقاءٍ يجمعني بهن بطريق الصدفة مثلما وعدني الله بكثيرٍ من أصحاب الذكريات الجميلة لدي وقابلتهم...