المتابعون

الخميس، 6 أكتوبر 2011

اعتذار


استيقظت من نومها دون أن تسمعدقات جرس المنبه بهاتفها المحمول. تفحصت الحقيبة التي استقرت بجوارها على الفراش..رباه!! إنها السابعة وثماني دقائقٍ. انتفضت منزعجة من الفراش وبسرعة قامت بالطقوس الصباحية حتى الصلاة بعد ارتداء ملابسها. بحثت عن نظارتها التي تقيها الشمس وتبعث في عينيها الأمل بلونها الوردي الذي يجعل الحياة تبدو ورديةً في عينيها، ولكنهااختفت ربما كي لا تُداري انتفاخ عينيها من آثار البكاء.
نزلت بسرعة بعد أن تلت دعاءالخروج من المنزل. تُحاولُ أن تبحث عن فرحةٍ ولو بسيطة تهزّ قلبها. تسيرُ بخطواتٍ سريعة نحو المحطة حيث استقلت أول حافلة إلى العباسية. ولم تنسَ استكمال قراءةروايتها التي بدأتها منذ أيامٍ في أثناء ذهابها إلى العمل. تنزل في العباسيةوتشيرُ لحافلةٍ أخرى لتتوقف وتقلها إلى عملها. تفكرُ بتجهم فيما حدث ليلة أمس. ترى فتاتين على وجهيهما الغضاضة التي اعتلت وجهها من سنواتٍ طوال. تنزل مرةً أخرى لتركب السيارة الأخيرة. تدفع الأجرة وتنظر باهتمامٍ من النافذة الصغيرة لكي تنبه السائق ليتوقف عند المكان المعلوم. ياااااااه!! لقد توقف في مكانٍ يبعد عنه قليلًا. تنزلُ فتعود المسافة نفسها وتحاول أن تسرع كي لا تُغضِب المدير الجديد في العمل.
تدخلُ مسرعةً فتجد الساعة قد تجاوزت الثامنة بثلاث دقائقٍ أو ربما بأقل. توقع في دفتر الحضور بعد أن أومأت برأسها إلى المدير الذي انشغل مع زميلٍ آخر لكنه التفت لقدومها ونظر في ساعته على الفور.
وقَّعَت في دفتر الحضور، وسلكت مسلكها إلى الفصل حيثُ زوجة المدير تعلم الفتيات. سلمت وصافحت.. وأغلقت الباب واستقرت فوق الكرسي. وإذا بالباب تطرقه ابنة المدير الصغيرة، تقولُ: عمو يريدك.
تندهشُ وتخرج لتجيبه فيسألها أن تذهب إلى حجرة المدير، ثم يستوقفها لتجلس في فصلٍ لتنتظر وتدخل بعد دقائق قليلةإلى حجرته التي لا تفصلها ألواح الزجاج القاتمة قليلًا.
يحاولُ أن يفهمها بلغته العربيةالضعيفة أن المركز يُعاني من عدم إقبال الطلاب هذا الشهر وأنها قضت معهم في المركزيومين وسوف يتصل بها في وقتٍ آخر. تتقبل الوضع بصدرٍ رحب، وتوقع الإيصال وتأخذالنقود على استحياءٍ وتنصرف.
"هكذا الحياة! ما دامت لأحدٍ قبلي. ولكنها تفعلها معي بزيادة.. الحمد لله.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون!!"
تتذكرُ كيف قضت حياتها تتنقل من بيت الجدة إلى بيت الأم في نفس البناية وكيف كانت تُغضبها خالاتها اللاتي يستكثرن عليها معاملة الجدة الحسنة لها؛ فتعودُ إلى منزلها فلا تنعم بالهدوء والحب المماثل من الجدة ولا العناية، فتعاودُ الكَرَّة من جديدٍوتعيد الكراسات والكتب والمنضدة إلى بيت الجدة بأعلى البناية.
تشير إلى سيارة ثم تلمحها مكتوبٌ عليها "التحرير" فتستقلها وتدفع الأجرة من جديد. تحاولُ أن تنسى وتعاودُ في الخيالِ إلى نفس التفكير: ما استقرت لها الحياةُ من قبل!!
في الطريق تتغافل الرواية وتفكرفي شكل الرجال الذين تراهم وهل تنطبعُ حقًّا صورهم في الذاكرة أم أنها تدققُ في ملامحهم دون جدوى! تفكرُ في هذا وذاك ولا تجد لصورهم مكانًا في ذاكرتها التي تعتصرها لتُخرجَ منها حتى شكل أعينهم التي تنظرُ إليها ولا تلتقطُ منها أيَّ شيءٍبالمرة يستقرُ في ذاكرتها.
تصلُ إلى التحرير، تنزلُ متجهمةًوتتذكر المجلة التي وعدها أستاذاها بأن تكون قصيدتها بين دفتيها. تتذكرُ الحزنَ مرةً أخرى، فتحاولُ أن تُقنعَ نفسها بالفرحة الصغيرة التي حاولت دسها في الذاكرةلكي تنسى أمر العمل المتوقف منذ شهور. ترى بائع الجرائد والمجلات فتسأله عن المجلة. يجيبها بالنفي. تُصِرُّ على أن تجدها لدى البائع الآخر في الجهة المقابلة،فيجيبها هو الآخر بالنفي.. تُصِرُّ على الفرحة. تعبر الطريق، وتجد مسلكًا إلى بائع الجرائد بالميدان. تبحث عنها فلا تجدها فتسأله فيكلف شابًا بالبحث فلا يجد فتعودُ فيبحث الرجل المسن بنفسه وهي تسأل نفسها الفرحة وتُلِحُّ عليها. يخبرها عن مكان البائع المجاور. تذهب إليه فيشير عليها أن تعودَ مرةً أخرى إلى البائع الأول الذي ينفي تمامًا ويذكر إنه قد بلغه منها خمسة أعدادٍ لم يتبقَ منهم أيُّ عدد. تسأله عن المصدر فيقول لها الشاب: 6 شارع الصحافة، اركبي المترو وانزلي محطة جمال عبدالناصر.
- ياااااه!! المترو وكثرةالمواصلات أهلكتها وخصوصًا الصعود والهبوط لتلك السلالم المملة. لا سأمشي..
وسط البلد جميلٌ صباحًا. الشوارع هادئة، ونظيفة. يأخذها شارعُ إلى آخر تنظر في زجاجات العرض فترى أحذية جميلة لاتراها جيدًا ليلًا أثناء السير. تتابع أسعار الأحذية التي أعجبتها فترى: ستين جنيهًا، خمسين جنيهًا، خمسين.. خمسين.. ستين..
تتمتم:"يعني ما حصلت عليه من أجرٍ في يومين ع الجزمة!"
تلمعُ في رأسها فكرةُ الذهاب إلى الشيخ الذي يحتفظُ بأعدادِ الجريدة التي تنشر لها مقالًا من آنٍ لآخر. تسير وتسيروتسأل، وأخيرًا تجده فتسأله بعد أن يلقي عليها تحياته الطيبة المعتادة. ويؤكدُ لهاوجود المجلة. يراها فتلمعُ فرحةٌ من نوعٍ خاص في عينيها. تعطيه الثمن فيرفضُ بشدةوتصرُ هي وتقول: عندما أصبح مشهورةً سآتيك وتعطيني الجرائد كلها مجانًا وأدعك تلتقطُ صورةً معي لتعلقها على كتبك. وتضحك.. ويُصرُّ الرجل ألَّا يحصل على المقابل، فتضع النقود في جيبه الذي يعلو جلبابه. تمسك بالمجلة وتفر الصفحات الأخيرة حيث لمحت قبل شرائها قصيدة الزميل. ولا ترى قصيدتها.. تعيد النظرَ ولاتراها. تسألُ البائعَ أن يبحث معها، ولا جدوى. يُعيدُ البائع إليها ثمن المجلةويستحلفها أن تأخذ العدد ويواسيها بخجل. تكادُ تبكي.. تنصرفُ فربما تُسعِدُ زميلهابحصولها على المجلة.
تسير وتسير وتحاول أن تمشي من نفس مكان زجاجات عرض الأحذية ويُرهقها السير بل الأسى من فقدان العمل والفرحةالمرتقبة. تشيرُ إلى سيارة الأجرة، وتركب. تعودُ في ثوانٍ إلى المنزل فالشوارع ليست مزدحمة. تطرق الباب وتدخل بعد أن ينفتح وتفتح باب الحجرة لتلقي بقطع الملابس على الفراش تريدُ أن تنام لتنسى.
مهلًا!! سأكتبُ لهما أنني مستاءةمما حدث. تفتحُ الجهاز وتكتب في رسالة خاصة وتتذكر الكتابة لأستاذها الآخر فلاينفتح بريده فتكتب له رسالة خارجية تعبر فيها عن استيائها لعدم نشر القصيدة. تقضي ساعات أمام الجهاز الذي لم تفارقه إلا لضرورات بسيطة. حتى إذا حلَّ الليلُ تتذكرالحقيبة فعليها أن تخيطها قبل أن تخرج غدًا. تعودُ إلى المجلة التي استقرت بجوارالحقيبة وقطع الملابس، وتفتحها وتسمي الله: من الصفحات الأولى إلى الأخيرة فلا تجدشيئًا.. تسمي الله ثانيةً... ما هذا؟؟؟ إنها القصيدة في الصفحات الأولى بالمجلة!تبكي لظلمها الذي سبب ربما جرحًا لأستاذيها. فتقررُ أن تعتذر...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشكر لك المتابعة والتفاعل بالتعليق