المتابعون

الأحد، 17 يوليو 2011

ترابيزة سفرة تيتة

منضدة طويلة خشبية لها كراسي كثيرة تحيطها. كانت المنضدة و مازالت تحوي العديد من الذكريات الجميلة. تحت هذه المنضدة جلستُ أنا و أخي صغارًا نلعب مع أولاد الجيران و عندما كبر أبناء الأخوال و الخالات جلسنا جميعًا تحتها.
للمنضدة شكلٌ مميز بسيط، و رغم ثقل كراسيها كنا نزيحهم لنتخذها بيتًا نصنع تحته تفاصيل حياتنا البسيطة في لعبنا اليومي. المنضدة عبارة عن قطعتين كبيرتين من الخشب يربط بينهما لوح خشبي عريض كنا نتخذه كمنضدة نضع عليها أكواب الشاي التي نتخيلها أثناء اللعب، و لا مانع أن نضع أحيانًا الأطباق البلاستيكية التي كانت تضع لنا فيها الجدة بعض الطعام.
من بين كراسيها كنا ندخل إلى المنزل الخيالي. و أحيانًا كنا نخرج و ندخل من بين أرجل الكراسي. البعض الآخر منا كان يصنع بيته بصورٍ مختلفة تمامًا، و كله يتوقف على رضا الجدة عما نصنع بأثاث منزلها. أو بالأحرى انشغال الجدة بحديثٍ طويل مع الجارة العزيزة التي هي الأخرى كان لأولادها الصغار دورهم في شقتنا الخيالية.
ارتبطت أحاديثُ الجدة أو أغلبها بالطبخ و بالمسلسلات العربية و بأسعار الخضر و الفاكهة. لم تكن تمل من لعبنا إلا إذا خطف أحدنا برطمان السكر ليضع بدلًا منه الملح فتصنع هي كوبًا من الشاي لتُحليه بقدر و لو بسيط منه فتكتشف المصيبة و يعلو صراخها. كنا نضحك كثيرًا و أحيانًا يكاد قلبي يقفز من مكانه خوفًا منها أو عليها.
أتذكر جيدًا رغم مرور السنين لعبنا. أخي يتقمص دور الأب، و أنا أتقمص بدوري دور الأم و أحد أبناء الجيران في عمرنا يتقمص دور الخال. و تدور أحداثٌ يومية يلعبُ أبطالها الحقيقيون في خيالنا الصغير يوميًّا في واقعنا الكبير و نستعيره منهم لنقلد كل حركاتهم بمنتهى الدقة. حتى تدخين الكبار كان القلم يصنع معنا هذه المعجزة المعضلة. أما النمط اليومي الذي كانت الأم تسير عليه بحرفية شديدة فكنتُ أزعم إتقانه.
في يومٍ من الأيام بحثت الجارة عن ابنها الطفل الصغير الذي لم يكمل بعد عامين و أخذت تلطم خديها و تسألنا، و كنا قد انتهينا من اللعب منذ فترةٍ طويلة. و أعدنا الكراسي إلى مواضعها كما وعدنا جدتنا. تتزايد مخاوف الجدة و الجارة و نبحث معهما في كل حجرات منزلها و منزلنا. و فجأة ننظر تحت المنضدة و لأننا صغارًا كنا نرى بأعيننا ما لا يراه الكبار، إذ أن الجارة قد نظرت تحت المنضدة التي تحيطها الكراسي مرات و مرات لكنها لم تبلغ ما نبلغه نحن الصغار بقصر قامتنا. أخرجناه نائمًا من تحت المنضدة لنقطع خوف الجدة و حيرة و قلق و توتر الأم لغياب رضيعها. كان الموقف مفجرًا للضحكات و خصوصًا بعد أن تذكرنا أنه كان يمثل معي دور الابن الذي فشلت أمه الحقيقية - الجارة - أن تضعه في سريره نائمًا، إلا أنني قمتُ بذلك و نسيتُ عندما نادت الجدة لتشير إلينا بانتهاء وقت اللعب و بأن أمنا على وشك العودة من العمل، لذلك أعاد كلٌّ منا الكراسي إلى موضعها و نسينا الطفل بينها نظرًا لضآلة حجمه.
نفس الجلسة التي جلسناها تحت المنضدة أو المائدة المستطيلة الخشبية ،التي كانت الجدة تصر على تزيينها، جلستها أجيال و أجيال و لم نكن ندري أن أحجامنا تكبر في حين تتضاءل أحجام الآخرين لتتناسب معهم بكل دقة تفاصيل المنزل الخيالي الذي صنعه أول جيلٍ لنا....تحت المنضدة.

هناك تعليقان (2):

  1. الحقيقة
    كل التحية على جمال اختيارك لرمز موجود في بيوتنا جميعا عندما منذ كنا نحبوا ونراه
    وأنا ارى جماله في استعادة الطفولة بكل ما فيها من أشياء نفتقدها الأن استعادة للمائدة او بمعنى ادق أسفلها كان مفاجأة لي وكان عبقريا منكي في الحقيقة فأنا عندما تناولت الفكرة من قبل ولكن بشكل مختلف من خلال الطبلية استعدتها بالطبع لاستخدامها من فوق والعلاقة التي كانت تربط الناس بها ولكن كان ذلك في شكل قصيدة متواضعة
    تحياتي
    حسن أرابيسك

    ردحذف
  2. أشكرك سعدت للغاية بمرِورك و أتمنى مزيدًا من التواصل

    ردحذف

أشكر لك المتابعة والتفاعل بالتعليق